فصل: ذكر ولاية أتابك زنكي شحنكية العراق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل المأمون بن البطائحي:

في هذه السنة، في رمضان، قبض الآمر بأحكام الله العلوي، صاحب مصر، على وزيره أبي عبد الله بن البطائحي، الملقب بالمأمون، وصلبه وإخوته.
وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، فمات ولم يخلف شيئاً، فتزوجت أمه وتركته فقيراً، فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير، فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش، مرة بعد أخرى، فرآه الأفضل خفيفاً رشيقاً، حسن الحركة، حلو الكلام، فأعجبه، فسأل عنه، فقيل هو ابن فلان، فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، وكبرت منزلته، وعلت حالته، حتى صار وزيراً.
وكان كريماً، واسع الصدر، قتالاً، سفاكاً للدماء، وكان شديد التحرز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد: مصر، والشام، والعراق، وكثر الغمازون في أيامه.
وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفراً أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك، فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة، وكان خصيصاً بالآمر، قريباً منه، وقد ناله من الوزير أذى واطراح، فحضر عند الآمر وأعلمه الحال، فقبض عليه وصلبه، وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، وتعرف قديماً بقلعة دوس.
وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان، قتله الباطنية، وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر، فعاد فقتل، وكان ذا مروءة غزيرة، وتقدم كثير في الدولة السلجوقية.
وفي هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد، وهو من ولد بلال بن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو سعد، طاف البلاد، وسمع وقرأ القرآن، وكان موته بسمرقند. ثم دخلت:

.سنة عشرين وخمسمائة:

.ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس:

في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس، واستطال على المسلمين، فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج، وجاس في بلاد الإسلام، وخاضها، حتى وصل إلى قريب قرطبة، وأكثر النهب والسبي والقتل، فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة، وقصدوه، فلم يكن له بهم طاقة، فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول، فحصروه، وكبسهم ليلاً، فانهزم المسلمون، وكثر القتل فيهم، وعاد إلى بلاده.

.ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسان:

في هذه السنة أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، بغزو الباطنية، وقتلهم أين كانوا، وحيثما ظفر بهم، ونهب أموالهم، وسبي حريمهم، وجهز جيشاً إلى طريثيت، وهي لهم، وجيشاً إلى بيهق من أعمال نيسابور، وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز، ومقدمهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين.
وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعاً من الجند، ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم، فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها. فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر، فقتلوا كل من بها، وهرب مقدمهم، وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك، وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا، وغنموا من أموالهم وعادوا.

.ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياس:

في هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام، وقويت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها.
وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي، لما قتل خاله ببغداد، كما ذكرناه، هرب إلى الشام، وصار داعي الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقل له، فكثر جمعه، إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها.
وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه، لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعله عنده لهذا السبب. فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه، وأعلن دعوته، فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد، وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصداً للاعتضاد به على ما يريد، فعظم شره واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعاف ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة، وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد.
ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه، فخاف عاديتهم، فطلب من طغتكين حصناً يأوي إليه هو ومن اتبعه، فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه، فسلمت إليه، فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية، فعظم حينئذ خطبه، وجلت المحنة بظهوره، واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين، لا سيما أهل السنة والستر والسلامة، إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد، خوفاً من سلطانهم أولاً، ومن شر الإسماعيلية ثانياً، فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال، فانتظروا بهم الدوائر.

.ذكر قتل البرسقي وملك ابنه عز الدين مسعود:

في هذه السنة، ثامن ذي القعدة، قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي، صاحب الموصل، بمدينة الموصل، قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع، وكان يصلي الجمعة مع العامة، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة كلاب ثارت به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما آذاه، فقص رؤياه على أحصابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمع لشيء أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول ما رأى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة، وقتل رحمه الله.
وكان مملوكاً تركياً، خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً.
حكى لي والدي، رحمه الله، عن بعض من كان يخدمه قال: كنت فراشاً معه، فكان يصلي كل ليلة كثيراً، وكان يتوضأ هو بنفسه، ولا يستعين بأحد، ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل، وقد قام من فراشه، وعليه فرجية صغيرة وبر، وبيده إبريق، فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء، فمنعني البرد من القيام، ثم إنني خفته، فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه، فمنعني وقال: يا مسكين! ارجع إلى مكانك، فإن برد، فاجتهدت لآخذ الإبريق، فلم يعطني، وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي.
ولما قتل كان ابنه عز الدين مسعود بحلب يحفظها من الفرنج، فأرسل إليه أصحاب أبيه بالخبر، فسار إلى الموصل ودخلها أول ذي الحجة، وأحسن إلى أصحاب أبيه بها، وأقر وزيره المؤيد أبا غالب بن عبد الخالق بن عبد الرزاق على وزارته، وأطاعه الأمراء والأجناد، وانحدر إلى خدمة السلطان محمود، فأحسن إليه وأعاده، ولم يختلف عليه أحد من أهل بلاد أبيه.
ووقع البحث عن حال الباطنية، والاستقصاء عن أخبارهم، فقيل إنهم كانوا يجلسون إلى إسكاف بدرب إيليا، فأحضر ووعد الإحسان إن أقر، فلم يقر، فهدد بالقتل، فقال: إنهم وردوا من سنين لقتله، فلم يتمكنوا منه إلى الآن، فقطعت يداه ورجلاه وذكره، ورجم بالحجارة فمات.
ومن العجب أن صاحب أنطاكية أرسل إلى عز الدين بن البرسقي يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
ولما استقر عز الدين في الولاية قبض على الأمير بابكر بن ميكائيل، وهو من أكابر الأمراء، وطلب منه أن يسلم ابن أخيه قلعة إربل إلى الأمير فضل وأبي علي، ابني أبي الهيجاء، وكان ابن أخيه قد أخذها منه سنة سبع عشرة، فراسل ابن أخيه، فسلم إربل إلى المذكورين.

.ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمود:

كان قد جرى بين يرنقش الزكوي، شحنة بغدادن وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها، فخافه على نفسه، فسار عن بغداد إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة، وشكا إليه، وحذره جانب الخليفة وأعلمه أنه قد قاد العساكر، ولقي الحروب، وقويت نفسه، ومتى مل تعاجله بقصد العراق ودخول بغداد، ازداد قوة وجمعاً، ومنعه عنه، وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده.
فتوجه السلطان نحو العراق، فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن، بسبب دبيس، وإفساد عسكره فيها، وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات، لهرب الأكرة عن بلادهم، ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها، فلا مانع له عنها، وبذل له على ذلك مالاً كثيراً.
فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي، وأبى أن يجيب إلى التأخر، وصمم العزم وسار إليها مجداً. فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة، مظهراً للغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان، فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيماً لم يشاهد مثله. فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه، وبلغ منه كل مبلغ، فأرسل يستعطف الخليفة، ويسأله العود إلى داره، فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة، فإن الناس هلكى بشدة الغلاء، وخراب البلاد، وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم، وهو يشاهدهم، فإن عاد السلطان، وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر.
فغضب السلطان لقوله، ورحل نحو بغداد، وأقام الخليفة بالجانب الغربي، فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس، وصلى بهم، فبكى الناس لخطبته، وأرسل عفيفاً الخادم، وهو من خواصه، في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، وكان له حينئذ البصرة، وقد فارق البرسقي، واتصل بالسلطان، فأقطعه البصرة.
فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين، فنزل بالجانب الشرقي، وكان عفيف بالجانب الغربي، فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال، ويأمره بالانتزاح عنها، فأبى ولم يفعل، فعبر إليه عماد الدين، واقتتلوا، فانهزم عسكر عفيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر مثلهم، وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.
ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه، ويسد أبواب دار الخلافة سوى باب التوبي، وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار، ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعض عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دور الناس، فشكا الناس ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجهم، وبقي فيها من له دار، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلح، وهو يمتنع.
وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحجر الخليفة، أول المحرم سنة إحدى وعشرين، وضج أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كل ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ونهب العامة دار وزير السلطان، ودور جماعة من الأمراء، ودار عزيز الدين المستوفي، ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب، وقتل منهم خلق كثير في الدروب.
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحفرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر، واشتد الأمر عليهم، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطيء دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنه يريد القتال، فالتحق هو وعسكره بالسلطان.
وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه، ومعه المقاتلة في السفن، وعلى الدواب في البر، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحنها بالرجال المقاتلة، وأكثر من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة، فسارت السفن في الماء، والعسكر في البر على شاطيء دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض براً وبحراً، فرأى الناس منظراً عجيباً، كبر في أعينهم، وملأ صدورهم، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعظم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطان على قتال بغداد حينئذ، والجد في ذلك في البر والماء. فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلح، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطان مما جرى، وكان حليماً يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه، وعف عن أهل بغداد جميعهم.
وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه، وأهدى له سلاحاً وخيلاً وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفي.

.ذكر مصاف بين طغتكين أتابك والفرنج بالشام:

في هذه السنة اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وكنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم، وكاتب طغتكين أتابك صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجميعهم وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج واستخلف بها ابنه تاج الملوك بوري فكان بها، كما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتال، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له منع ولا حام حملوا على الرجالة فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يقوم كثرة فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة حصر الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي بيد المسلمين، وضيقوا عليها فملكوها.
وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي، الواعظ، وهو أخو الإمام أبي حامد محمد، وقد ذمه أبو الفرج بن الجوزي بأشياء كثيرة منها: روايته في وعظه الأحاديث التي ليست له بصحيحة، والعجب أنه يقدح فيه بهذا، وتصانيفه هو ووعظه محشو به، مملوء منه، نسأل الله أن يعيذنا من الوقيعة في الناس، ثم يا ليت شعري أما كان للغزالي حسنة تذكر مع ما ذكر من المساويء التي نسبها إليه لئلا ينسب إلى الهوى والغرض؟ ثم دخلت:

.سنة إحدى وعشرين وخمسمائة:

.ذكر ولاية أتابك زنكي شحنكية العراق:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر.
وكان سبب ذلك: أن عماد الدين لما أصعد من واسط في التجمل والجمع الذي ذكرناه، وقام في حفظ واسط والبصرة وتلك النواحي القيام الذي عجز غيره عنه، عظم في صدر السلطان وصدور أمرائه، فلما عزم السلطان على المسير عن بغداد نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ويأمن معه من الخليفة، فاعتبر أمراءه، وأعيان دولته، فلم ير فيهم من يقوم في هذا الأمر مقام عماد الدين، فاستشار في ذلك، فكل أشار به، وقالوا: لا نقدر على رفع هذا الخرق، وإعادة ناموس هذه الولاية، ولا تقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي. فوافق ما عنده، فأسند إليه الولاية وفوضها إليه مضافة إلى ما له من الأقطاع، وسار عن بغداد وقد اطمأن قلبه من جهة العراق، فكان الأمر كما ظن.

.ذكر عود السلطان عن بغداد وزارة أنوشروان بن خالد:

في هذه السنة، في عاشر ربيع الآخر، سار السلطان محمود عن بغداد، بعد تقرير القواعد بها، ولما عزم على المسير حمل إليه الخليفة الخلع، والداوب الكثيرة، فقبل ذلك جميعه وسار.
ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن القاسم الأنساباذي في رجب، لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله لقيامه في أمره وإتمام الصلح مقاماً ظهر أثره، فسعى به أعداؤه، فلما قبض عليه أرسل السلطان إلى بغداد فأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وكان مقيماً بها، فلما علم بذلك جاءته الهدايا من كلا أحد، حتى من الخليفة، وسار عن بغداد خامس شعبان، فوصل إلى السلطان، وهو بأصبهان، فخلع عليه خلع الوزارة، وبقي فيها نحو عشرة أشهر، ثم استعفى منها، وعزل نفسه، وعاد إلى بغداد في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وأما الوزير أبو القاسم فإنه بقي مقبوضاً إلى أن خرج السلطان سنجر إلى الري سنة اثنتين وعشرين، فأخرجه من الحبس في ذي الحجة، وأعاده إلى وزارة السلطان محمود، وهي الوزارة الثانية.

.ذكر وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها:

في هذه السنة توفي عز الدين مسعود بن البرسقي، وهو صاحب الموصل، وكان موته بمدينة الرحبة، وسبب مسيره إليها: أنه لما استقامت أموره في ولايته، وراسل السلطان محموداً، وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها، أجاب السلطان إلى ما طلب، فرتب الأمور وقررها. فكثر جنده، وكان شجاعاً، شهماً، فطمع في التغلب على بلاد الشام، فجمع عساكره وسار إلى الشام يريد قصد دمشق، فابتدأ بالرحبة، فوصل إليها ونازلها، وقام يحاصرها، فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها، فتسلم القلعة ومات بعد ساعة، فندم من بها على تسليمها إليه.
ولما مات بقي مطروحاً على بساط لم يدفن، وتفرق عنه عسكره، ونهب بعضهم بعضاً، فشغلوا عنه، ثم دفن بعد ذلك، وقام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد مملوك للبرسقي يعرف بالجاولي، ودبر أمر الصبي، وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد البرسقي، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك.
وكان الرسول في هذا الأمر القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري، وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي، فحضرا دركاه السلطان ليخاطبا في ذلك، وكانا يخافان جاولي، ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به، فاجتمع صلاح الدين، ونصير الدين جقر الذي صار نائباً عن أتابك عماد الدين بالموصل، وكان بينهما مصاهرة، وذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وأفشى إليه سره، فخوفه نصير الدين من جاولي، وقبح عنده طاعته، وقرر في نفسه أنه إنما أبقاه وأمثاله لحاجته إليهم، ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقي على أحد منهم.
وتحدث معه في المخاطبة في ولاية عماد الدين زنكي، وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة، وكذلك للقاضي بهاء الدين الشهرزوري، فأجابه إلى ذلك، وأحضره معه عند القاضي بهاء الدين، وخاطباه في هذا الأمر، وضمنا له كل ما أراده فوافقهما على ما طلبا، وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير، وهو حينئذ شرف الدين أنوشروان بن خالد، وقالا له: قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها، وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر، ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين، وقد كان البرسقي مع شجاعته، وتجريبه، وانقياد العساكر إليه، يكف بعض عاديتهم وشرهم، فمذ قتل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم، شجاع، ذي رأي وتجربة، يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل، أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويقال: ألا أنهيتم إلينا جلية الحال؟.
فرفع الوزير قولهما إلى السلطان، فاستحسنه، وشكرهما عليه، وأحضرهما، واستشارهما فيمن يصلح للولاية، فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي، وبذلا عنه، تقرباً إلى خزانة السلطان، مالاً جليلاً، فأجاب السلطان إلى توليته، لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولاه البلاد كلها، وكتب منشورة بها.
وسار فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره، لأنه خاف من جاولي أنه ربما صده عن البلاد، فلما دخل البوازيج سار عنها إلى الموصل. فلما سمع جاولي بقربه من البلد خرج إلى تلقيه ومعه جميع العسكر، فلما رآه جاولي نزل عن فرسه وقبل الأرض بين يديه، وعاد في خدمته إلى الموصل، فدخلها في رمضان، وأقطع جاولي الرحبة وسيره إليها، وأقام بالموصل يصلح أمورها، ويقرر قواعدها، فولى نصير الدين دزدارية القلعة بالموصل، وجعل إليه سائر دزدارية القلاع، وجعل صلاح الدين محمداً أمير حاجب، وبهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها، وزاده أملاكاً، وأقطاعاً، واحتراماً، وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمر، وبها مماليك البرسقي، فامتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجد في قتالهم، وبينه وبين البلد دجلة، فأمر الناس، فألقوا أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد، ففعلوا، وعبر بعضهم سباحاً، وبعضهم في السفن، وبعضهم في الأكلاك، وتكاثروا على أهل الجزيرة، وكانوا قد خرجوا عن البلد إلى أرض بين الجزيرة ودجلة، تعرف بالزلاقة، ليمنعوا من يريد عبور دجلة، فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ومانعوهم، فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم، فانهزم أهل البلد، ودخلوه، وتحصنوا بأسواره، واستولى عماد الدين على الزلاقة، فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا، ووهنوا، وأيقنوا أن البلد يملك سلماً، أو عنوة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وكان هو أيضاً مع عسكره بالزلاقة، فسلموا البلد إليه، فدخله هو وعسكره.
ثم إن دجلة زادت تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد، وصارت الزلاقة ماء، فلو أقام ذلك اليوم لغرق هو وعسكره، ولم ينج منهم أحد، فلما رأى الناس ذلك أيقنوا بسعادته، وأيقنوا أن أمراً هذا بدايته لعظيم.
ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين، وكانت لحسام الدين تمرتاش، صاحب ماردين، فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق، وهو صاحب حصن كيفا وغيرها، فاستنجده على أتابك زنكي. فوعده النجدة بنفسه، وجمع عسكره، وعاد تمرتاش إلى ماردين، وأرسل رقاعاً على أجنحة الطيور إلى نصيبين يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران في العسكر الكثير إليهم، وإزاحة عماد الدين عنهم، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام.
فبينما أتابك في خيمته إذ سقط طائر على خيمة تقابله، فأمر به فصيد، فرأى فيه رقعة، فقرأها وعرف ما فيها، فأمر أن يكتب غيرها، يقول فيها: من حسام الدين إنني قصدت ابن عمي ركن الدولة، وقد وعدني النصرة وجمع العساكر، وما يتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوماً، ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصلوا، وجعلها في الطائر وأرسله، فدخل نصيبين، فلما وقف من بها على الرقعة سقط في أيديهم، وعلموا أنهم لا يقدرون أن يحفظوا البلد هذه المدة، فأرسلوا إلى الشهيد وصالحوه، وسلموا البلد إليه، فبطل على تمرتاش وداود ما كانا عزما عليه، وهذا من غريب ما يسمع.
فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع من بها عليه، ثم صالحوه وسلموا البلد إليه، وسير منها الشحن إلى الخابور، فملكه جميعه. ثم سار إلى حران، وهي للمسلمين، وكانت الرها، وسروج، والبيرة، وتلك النواحي جميعها للفرنج، وأهل حران معهم في ضر عظيم، وضيق شديد، لخلو البلد من حام يذب عنها، وسلطان يمنعها، فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسلموا إليه، فلما ملكها أرسل إلى جوسلين، صاحب الرها وتلك البلاد، وراسله، وهادنه مدة يسيرة، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى الشام، ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقر الصلح بينهم، وأمن الناس، ونحن نذكر ملك حلب، إن شاء الله تعالى.